التحكيم التجاري طريقٌ سالِكٌ .. ومسارٌ أنجَع ..
مقدمة..
لقد تعاظم دور التحكيم التجاري والدولي في الدول الغربية عامةً وفي مملكة البحرين خاصة، ويأتي ذلك تماشياً مع تفاقم وزيادة النزاعات التجارية والدولية في القطاع التجاري، وإن ما شهدته مملكة البحرين من طفرة وقفزة نوعية إزاء التحكيم وانضمامها إلى عدة اتفاقيات تنص عليه، إنما يعتبر محل إشادة وثناء، نظراً لبسطها مسلكاً بديلاً عن القضاء العادي وجعلَهُ منفذاً أمام الشركات والشخصيات التجارية لفض النزاعات الناشئة فيما بينها، وهو بجلاء دونما ريب يشجع على نمو الإستثمار وازدهاره في المملكة نظراً للمميزات الجمّة التي يحملها في طيات تطبيقه.
محتوى..
فالتحكيم يعتبره شرُّاح القانون كوسيلة بديلة عن القضاء لفض المنازعات، وعلى حد تعبير الدكتور عبدالرزاق السنهوري فإنه يعتبر (قضاءً خاصاً) بموجبه يبرم طرفان أو أكثر اتفاقًا على فض منازعاتهم الناشبة فيما بينهم ويوكلون حلها إلى شخص ثالث غير القضاء الوطني في دولتهم ويسمى المُحكّم، أو الهيئة التحكيمية المكونة من ثلاثة محكّمين أو أكثر حسب الأحوال، ويكون حكم المحكّم أو الهيئة التحكيمية التي يلجأ لها المحتكمون ملزماً للطرفين، وما لجوئهم إلى ذلك الطريق إلا تنازلاً صريحاً منهم عن حق جوهري أصيل وهو الإحتكام للقضاء العادي، ولعل ذلك هو أدمَغُ أمارة وأدلُ برهان على المزايا البالغة التي يوفرها التحكيم من جهد ووقت وسرعة إنجاز ، وتحرر من قواعد وأنظمة إجراءات التقاضي، وحرية الأطراف في اختيار الشخص صاحب القول الفيصل في نزاعهم حسب الإختصاص وما تقتضيه طبيعة النزاع، وما تسبغه أحكام المحكمين من سرية تامة بعيدة عن علانية الجلسات، ليصل إلى غاية منشودة ومهمة يبتغيها الجميع لا سيما التجار وهي (العدالة الناجزة).
موقف المشرع البحريني من التحكيم..
ولقد احتضنت مملكة البحرين قواعد التحكيم واعترفت بنفاذ اتفاقياته ووجوب وإلزامية تنفيذ قراراته، وانضمت للاتفاقيات الدولية التي تنص عليه مثل اتفاقية نيويورك 1988، و سعت جاهدةً لأن تكوّن لها مراكزاً استراتيجية مهمة للتحكيم من خلال تأسيس غرفة البحرين لتسوية المنازعات بموجب المرسوم بقانون رقم (30) لسنة 2009، و مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومركز التحكيم في غرفة صناعة وتجارة البحرين (بيت التجار )، وتلك كلها من المراكز الإقليمية الرائدة المشاركة في ترسيخ وإرساء قواعد العدالة السريعة الناجزة للأطراف المحتكمون، إلى أن تبنت المملكة قواعد القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الصادر عن الأمم المتحدة (الأونيسترال)، وذلك بموجب القانون رقم (9) لسنة 2015 ، وقد حذت في ذلك حذو الكثير من الدول ومنها أمريكا وبريطانيا وتونس ومصر وكندا واليابان وغيرها.
مميزات اللجوء للتحكيم:
- لعل من أهم أسباب اللجوء للتحكيم كوسيلة لفض النزاع، ما يميزه بأنه يتم في سرية تامة وبعيدًا عن آذان المتشوقين لنقل الأخبار والقصص التي تجري علناً في باحات المحاكم. فالسرية أمر مهم يعنى به التجار خاصة لأهمية سمعتهم التجارية، ولعدم نشر تفاصيل الخلافات على الملأ بما يمس ويضر بتجارتهم، وبذلك تنعقد جلسات التحكيم في ردهات وقاعات مُحكمة الإغلاق.
- يصدر قرار التحكيم، ولا يوجد ثمة شخص يعلم بصدوره إلا الأطراف وهم المحتكم له والمحتكم ضده، وفي ذلك حفظ لسرية الأعمال التجارية، إلا إذا رأى الأطراف غير ذلك.
- وتضاف للتحكيم ميزة ذكية، وهي أن الكثير من المنازعات في الوقت الحالي ذات صفة “فنية متناهية الدقة” وتهتم بتفاصيل التفاصيل، مثل منازعات العلوم الطبية، والكيميائية، وعلوم الطيران، والعلوم القانونية المعقدة، والعلوم المحاسبية والمصرفية، والعلوم الهندسية الخاصة بتشييد المباني الضخمة والتي دائماً ما يتم التعامل بين أطرافها بتطبيق قواعد ما يسمى بعقود الفيديك وهي ما أشار إليها تفصيلا كتاب التحكيم في عقود الأشغال العامة ذات الطبيعة الدولية للمستشار الدكتور محمد عبدالمجيد إسماعيل، وكل هذه المجالات فنية دقيقة تجري وفق ديناميكية مُحكَمة، وتتم فيها معاملات يومياً وكذلك تحدث المنازعات الفنية بشأنها، ولا مناص من اللجوء إلى التحكيم لفض نزاعاتها، لأنه هو المؤهل للنظر في تسوية هذه المنازعات الفنية وذلك عائدٌ إلى أن “المحكم الفرد” أو “هيئة التحكيم” التي يختارها المحتكمون، تكون من ذوو التخصص المتغلغلة أذهانهم في ذات المجال المعني سوى أكان القانوني أو الهندسي أو الطبي أو التقني أو المحاسبي أو المصرفي أو غيره من التخصصات، وبما أنهم من أهل الاختصاص وأصحاب المهنة والدراية والريادة الفنية، فإنهم بلا شك ولا ريب مؤهلون أكثر من غيرهم للنظر في النزاع بما يتمخض عنه حكماً تحكيمياً فنياً بارعاً عادلاً ناجزا مسرودة أسبابه بتسلسل يتماشى مع العقل والمنطق والتخصص. وهدياً لذلك وعطفاً عليه فإنه يجب على الأطراف المحتكمون أن يختاروا الهيئة التحكيمية الحاذقة أو المحكم النبيه في مجال تخصصه وأن لا يختاروا من يصدق عليهم القول (بالمثقفين فقط) من دون استهجان أو استنقاص بأي فرد، وذلك نظراً لأن المتخصص يعرف كل شيئ في شيء (أي يعلم كل شاردة وواردة في تخصصه، بينما المثقف فهو يعلم شيء من كل شيء (أي يعرف معلومة من كل تخصص) وبعبارة أخرى أدق، فإن المتخصص يعرف كل الزهور التي في بستانه، بينما المثقف فيعرف من كل بستان زهرة. ومن هنا يتجلى للمحتكمين أهمية اختيار من يكون صاحب الكلمة الفاصلة في نزاعهم كل حسب تخصصه لأنه الأجدر من غيره في مجاله المتبحر فيه.
- وهناك أسباب ومميزات عديدة أخرى تبرر سلوك طريق التحكيم أبرزها أن التحكيم يكون بإرادة الأطراف وعبر هذه الإرادة المحضة يقوم كل منهم باختيار هيئة التحكيم أو المحكم الفرد والقانون الواجب التطبيق ومكان التحكيم ولغة التحكيم والإجراءات الأخرى المكملة للسير في الدعوى التحكيمية.
- ولعل ما يجعل التحكيم مصدّق عليه عنوان هذا المقال في أنه طريق سالك ومسار أنجع وهو أنه نافذ فوراً وقابل للتنفيذ بقوة القانون بعد إجراءات بسيطة عقب صدور الحكم، ولا يجوز الطعن فيه إلا في حالات محددة وضيقة شدّ وندر حدوثها.
إجراءات مهمة ودقيقة استعرضها القانون النموذجي (الأونيسترال):
كيف تتم اتفاقيات التحكيم في مملكة البحرين؟
يتم تحديد اتفاق التحكيم وشكله وفقا للبند الأول المنصوص عليه في المادة 7 من القانون النموذجي (الأونيسترال)، وهي قد تكون في شكل شرط تحكيم منصوص عليه في العقد ، على سبيل المثال: (جميع الخلافات التي تنشأ عن هذا العقد أو التي لها علاقة به يتم حسمها نهائيا وفقا لنظام مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية). أو في شكل اتفاق منفصل، يجب أن تكون كتابية ومتضمنة كل البيانات والأسماء للأطراف والمحكمين ومذيلة بتوقيعهم، ويوجد نموذج لمشارطة التحكيم مدرج في الموقع الخاص بمركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
هل هناك نزاعات غير قابلة للتحكيم في مملكة البحرين؟
لا يوجد نص واضح وصريح يحدد النزاعات غير القابلة للتحكيم في مملكة البحرين، ومع ذلك فإن بعض القضايا لا يمكن تسويتها عن طريق التحكيم لما لها من حقوق عامة وخاصة، على سبيل المثال القضايا المتعلقة بالأسرة وقانون العقوبات.
أين تقع محاكم التحكيم في مملكة البحرين؟
لا يوجد نص صريح يلزم بوجود محاكم التحكيم في رقعة جغرافية معينة في المملكة، وقد بينت ذلك المادة 20/أونيسترال بأنه للطرفين حرية الإتفاق على مكان التحكيم فإن تخلفا عن ذلك تولت هيئة التحكيم تعيين هذا المكان، بما يكفل راحة الجميع، ويجوز للهيئة أن تجتمع في أي مكان تراه مناسباً بما يوائم سرية المداولة بين أعضائها ولسماع أقوال الشهود والخبراء وأطراف النزاع أو معاينة البضائع وغيرها من الممتلكات.
ما هو التصرف القانوني لو رفعت دعوى قضائية أمام القضاء العادي وأن أساس العقد المرفوع بشأنه الدعوى المذكورة يتضمن شرط تحكيم؟
لقد أجابت المادة الثامنة من القانون النموذجي على هذا التساؤل مبينةً أنه وجوباً على المحكمة المرفوع أمامها الدعوى وقد أبرم بشأنها اتفاق تحكيم، أن تحيل الطرفين إلى التحكيم، بشرط أن يطلب أو يدفع أحد الطرفين بذلك قبل الخوض والمضي قدماً في موضوع الدعوى وبيان الدفاع والدفوع.
وعند تحقق ذلك الشرط تقضي المحكمة المعروض عليها النزاع بعدم سماع الدعوى أعتداداً بشرط التحكيم الوارد في العقد، ومن ثم يرفع الأطراف دعوى تحكيمية أمام الجهة المختصة.
هل يجوز للمحكمة المعروض عليها النزاع أن تتخذ أي تدبير أو قرار قبل الحكم فيها بعدم السماع إعتداداً بشرط التحكيم؟
نعم، وهو عين ما نصت عليه المادة 9 من القانون المذكور فإنه يجوز للمحكمة بناءً على طلب الخصوم أن تتخذ تدبيراً وقائياً بناءً على طلب أحد الأطراف قبل بدء إجراءات التحكيم، كالمنع من السفر أو حجز حسابات أحد الأطراف خشية من الفرار أو تهريب الأموال ريثما يتم البدء في إجراءات التحكيم.
كم هو عدد المحكمين في القضية التحكيمية؟
نصت المادة 10 من القانون النموذجي (الأونيسترال) على أنه للطرفين حرية اختيار عدد المحكمين فإن لم يفعلا ذلك كان عدد المحكمين ثلاثة، وقد بينت المادة 11 من القانون آنف الإلماح إلى أن عدد المحكمين في هيئة التحكيم هو بشكل افتراضي ثلاثة لكن الأطراف قد يتفقوا على خلاف ذلك في حالة هيئة تحكيم من ثلاثة أعضاء يقوم كل من المحتكم له والمحتكم ضده بتعيين محكم واحد لكل منهما ويعين المحكمون المختارون محكماً ثالثاً يعمل رئيساً لهيئة التحكيم.
وعندما لا يتم الترشيح من قبل الأطراف ولم يتفقوا على اسم بشكل مشترك يجوز للمحكمة المدنية الكبرى في مملكة البحرين التدخل وتعيين محكم.، وهناك إجراءات أخرى فصلتها المواد المذكورة تباعاً في القانون سالف البيان.
هل يحوز الطعن في المحكّم المعين؟
يجوز لأي من الأطراف تقديم طلب للطعن في المحكم إذا علم بأية ظروف تثير شكوكاً لها ما يبررها بشأن حياديته أو استقلاليته.
الإعتراف بأحكام المحكمين وكيفية تنفيذها:
لقد نصت اتفاقية نيويورك عام 1988 وكذلك المادة 35 من القانون النموذجي بالاعتراف بأحكام التحكيم التجارية الدولية وتنفيذها في مملكة البحرين، حيث يتم تقديم طلب كتابي أمام المحكمة المختصة قانوناً وبعد المصادقة على الحكم تتم مباشرة إجراءات تنفيذه.
هل يجوز الطعن في أحكام المحكّمين؟
لقد أوضحت ذلك المادة 34 من القانون النموذجي بأنه لا يجوز الطعن أمام أحد المحاكم في القرار التحكيمي إلا بطلب الإلغاء وفي حالات محددة على مقدم الطلب أن يثبتها وهي:
- أن يكون أحد الطرفين يعاني من عدم القدرة عند إبرام اتفاقية التحكيم أي فاقد الأهلية.
- إذا لم يبلّغ الطرف طالب الإلغاء بتعيين المحكمة بالوجه الصحيح.
- أن قرار التحكيم الصادر يتناول نزاعاً لا يشمله اتفاق التحكيم.
- أن يكون تشكيل هيئة التحكيم بشكل خاطئ منافي لاتفاق الطرفين.
- أن يكون الموضوع غير قابل للتحكيم بموجب القانون البحريني أو أن يكون متعارضاً مع السياسة العامة.
وفي كل الأحوال لا يجوز تقديم طلب الإلغاء بعد ثلاثة أشهر من يوم صدور حكم التحكيم أو من يوم تسلم الطرف ذلك الحكم. وقد تضمن قانون الأونيسترال النموذجي كل ما يتعلق بالتحكيم منذ الوهلة الأولى للإتفاق حتى تنفيذ أحكام المحكمين، وقد سردها تباعاً ببيان التعاريف وطرق الإعلان والنزول عن حق الإعتراض ومدى تدخل المحكمة، وبيان المحكمة المختصة بالإشراف في مجال التحكيم، وبيان اتفاق التحكيم وأشكاله، وكيفية تشكيل وتعيين المحكمين، وأسباب رد المحكم، وإجراءات الرد، وأسباب الإمتناع والإستحالة لأداء المحكم لوظيفته، وتعيين المحكم البديل، واختصاصات هيئة التحكيم، والتدابير المؤقته والأوامر الأولية المختصة بها الهيئة التحكيمية والإعتراف بها وكيفية تنفيذها وأسباب الرفض، وتقديم الضمانات، والإفصاح، والتكاليف والتعويضات، وكيفية سير إجراءات التحكيم، ومكان التحكيم، واللغات، وكيفية تقديم الدفوع والدفاع، وتخلف الأطراف، وتعيين الخبراء الفنيين، والمساعدة المقدمة من المحاكم، وصولاً لإصدار حكم التحكيم، أو تسوية النزاع، وشكل الحكم ومحتوياته، وإنهاء إجراءات التحكيم، وطرق الطعن في الحكم، وكيفية الإعتراف به وتنفيذه، وأسباب الرفض للتنفيذ.
الخاتمة
وختاماً نقول أنه طالما كان هناك قانون في مملكة البحرين يعترف بالتحكيم ويمنحه القوة القانونية اللازمة التي من خلالها يجوز للأطراف طواعيةً واختياراً اللجوء للتحكيم لتسوية المنازعات التي قد تطرأ بينهم في أي وقت فإن لديهم وسائل أخرى بديلة عن القضاء الوطني، ومن ضمنها التحكيم، فيمكنهم اللجوء لسلوكه برغبتهم الذاتية لتسوية منازعاتهم، والقانون يمنحه القوة التنفيذية اللازمة، ويتم تنفيذ أحكام المحكمين النهائية عبر المحاكم الوطنية في مملكة البحرين التي كان لها تاريخ طارف مع وظيفة التحكيم ورسالته السامية، ولعل أبرز ما يظهر التحكيم التجاري في طليعة البدائل القضائية هو وجود (مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية – دار القرار)، والذي يعتبر معقلاً لقضايا التحكيم في مملكة البحرين ودول مجلس التعاون، وكانت له إسهامات بارزة وجلية في إرساء قواعد العدالة من خلال الكثير من القرارات الصادرة في العديد من القضايا التحكيمية في مختلف التخصصات، وهو ما جعل الكثير من الشركات التجارية تأخذ مملكة البحرين موطناً تجارياً لها لسرعة الفصل في النزاعات التجارية القائمة من خلال التحكيم التجاري.
والله ولي التوفيق،،،
المحكّم القانوني
م. جعفر بن يوسف الجمري
مجموعة بن يوسف القانونية
لقراءة المقال بصيغة ملف PDF اضغط هنا